الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكذلك في قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] ثم يقول الحق سبحانه: {كِلْتَا الجنتين ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا}.أي: أعطتْ الثمرة المطلوبة منها، والأُكُل: هو ما يُؤكل، ونعرف أن الزراعات تتلاحق ثمارها فتعطيك شيئًا اليوم، وشيئًا غدًا، وشيئًا بعد غد وهكذا.{وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] كلمة {تَظْلِم} تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا، فالأرض وهي جماد لا تظلم، ولا تمنعك حقًا، ولا تهدِر لك تعبًا، فإنْ أعطيتَها جهدك وعملك جادتْ عليك، تبذر فيها كيلة تعطيك إردبًا، وتضع فيها البذرة الواحدة فتُغِلُّ عليك الآلاف.إذن: فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حَرْثٍ وبَذْر ورعاية وسُقْيا، وقد تريحك السماء، فتسقى لك.لذلك، لما أراد الحق سبحانه أنْ يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر، قال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261].فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة، فما بالك بخالق الأرض؟ لا شك أن عطاءه سيكون أعظم؛ لذلك قال بعدها: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].إذن: فالأرض لا تظلم، ومن عدل الأرض أنْ تعطيك على قَدْر تعبك وكَدِّك فيها، والحق سبحانه أيضًا يُقدِّر لك هذا التعب، ويشكر لك هذا المجهود، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال: «هذه يَدٌ يحبها الله ورسوله».يحبها الله ورسوله؛ لأنها تعبت وعملت لا على قَدْر حاجتها، بل على أكثر من حاجتها، عملتْ لها وللآخرين، وإلا لو عمل كُلُّ عامل على قَدْر حاجته، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل؟إذن: فعلى أصحاب القدرة والطاقة أنْ يعملوا لما يكفيهم، ويكفي العاجزين عن العمل، وهَبْ أنك لن تتصدَّق بشيء للمحتاج، لكنك ستبيع الفائض عنك، وهذا في حد ذاته نوعٌ من التيسير على الناس والتعاون معهم.وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تُجزِل لك العطاء إنْ بررْتَ بها، وكذلك الأرض، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإنْ كنت جاحدًا، وكذلك الأرض ألاَ تراها تُخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرَمتها بالبر؟ لا شك ستزيد لك العطاء.والحقيقة أن الأرض ليست أُمَّنا على وجه التشبيه، بل هي أُمّنا على وجه الحقيقة؛ لأننا من ترابها وجزء منها، فالإنسان إذا مرض مثلًا يصير ثقيلًا على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخ محب وكل قريب، في حين تحتضنه الأرض، وتمتص كل ما فيه، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر. ثم يقول تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: 33] ذلك لأن الماء هو أَصْل الزرع، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصًا يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج، فيحجبه أحد عنهما. ثم يقول الحق سبحانه: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}.أي: لم يقتصر الأمر على أنْ كان له جنتان فيهما النخيل والأعناب والزرع الذي يُؤتي أُكُله، بل كان له فوق ذلك ثمر أي: موارد أخرى من ذهب وفضة وأولاد؛ لأن الولد ثمرة أبيه، وسوف يقول لأخيه بعد قليل: أنا أكثر منك مالًا وأعزُّ نفرًا.ثم تدور بينهما هذه المحاورة: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34].دليل على أن ما تقدم ذِكْره من أمر الجنتين وما فيهما من نِعَم دَعَتْهُ إلى الاستعلاء هو سبب القول: {لِصَاحِبِهِ}، والصاحب هو: مَنْ يصاحبك ولو لم تكن تحبه {يُحَاوِرُهُ} أي: يجادله بأن يقول أحدهما فيرد عليه الآخر حتى يصلوا إلى نتيجة. فماذا قال صاحبه؟ قال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا} [الكهف: 34] يقصد الجنتين وما فيهما من نعم {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] داخلة في قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] وهكذا استغنى هذا بالمال والولد.ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}.{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)}.عرفنا أنهما جنتان، فلماذا قال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف: 35] نقول: لأن الإنسان إنْ كان له جنتان فلنْ يدخلهما معًا في وقت واحد، بل حَالَ دخوله سوف يواجه جنةً واحدة، ثم بعد ذلك يدخل الأخرى.وقوله: {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [الكهف: 35] قد يظلم الإنسان غيره، لكن كيف يظلم نفسه هو؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يُرخيِ لها عنان الشهوات، فيحرمها من مشتهيات أخرى، ويُفوِّت عليها ما هو أبقى وأعظم، وظلم الإنسان يقع على نفسه؛ لأن النفس لها جانبان: نفسٌ تشتهي، ووجدان يردع بالفطرة.فالمسألة إذن جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون: أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه، فإنْ قلت: كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأملتَ لوجدتَ أنك ساعة تُحدِّث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه؛ لأن بداخلك شخصيتين: شخصية فطرية، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية، فإنْ مَالتْ النفس الشهوانية أو انحرفتْ قَوَّمتها النفس الفطرية وعَدلَت من سلوكها.لذلك قلنا: إن المنهج الإلهي في جميع الديانات كان إذا عَمَّتْ المعصية في الناس، ولم يَعُدْ هناك مَنْ ينصح ويرشد أنزل الله فيهم رسولًا يرشدهم ويُذكِّرُهم، إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سبحانه حَمَّلهم رسالة نبيهم، وجعل هدايتهم بأيديهم، وأخرج منهم مَنْ يحملون راية الدعوة إلى الله؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن يَعُمْ، فإنْ وُجِد من بين هذه الأمة العاصون، ففيها أيضًا الطائعون الذين يحملون راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مسألة ضرورية، وأساسٌ يقوم عليه المجتمع الإسلامي.ثم يقول تعالى: {قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَدًا} [الكهف: 35].فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ لا، لأنها جنتُه يدخلها كما يشاء، إنما المراد بالظلم هنا ما دار في خاطره، وما حَدَّث نفسه به حالَ دخوله، فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الاستعلاء بالغِنَى، والغرور بالنعمة، فقال: ما أظنُّ أنْ تبيدَ هذه النعمة، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك، لقد غَرَّهُ واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم، ليس هذا وفقط، بل دعاه غروره إلى أكثر من هذا فقال: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً}.هكذا أطلق لغروره العنان، وإنْ قُبلَتْ منه: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَدًا} [الكهف: 35] فلا يُقبَل منه {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] لذلك لما أنكر قيام الساعة هَزَّته الأوامر الوجدانية، فاستدرك قائلا: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} [الكهف: 36] أي: على كل حال إنْ رُددتُ إلى ربي في القيامة، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أَعدَّ له ما هو أفضل من هذا.ونقف لنتأمل قَوْل هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} [الكهف: 36] حيث يعرف أن له ربًا سيرجع إليه، فإنْ كنت كذوبًا فكُنْ ذَكُورًا، لا تُناقِض نفسك، فما حدَث منك من استعلاء وغرور وشَكٍّ في قيام الساعة يتنافى وقولك {رَبِّي} ولا يناسبه. و{مُنْقَلَبًا} أي: مرجعا. اهـ.
اهـ.
وحَفَّ به القومُ: صاروا طائفين بجوانبِه وحافَّته، وحَفَفْتُه به، أي: جَعَلْتُه مُطِيْفًا به.قوله: {كِلْتَا}: قد تقدَّم في السورة قبلها حكمُ {كلتا} وهي مبتدأ، و{آتَتْ} خبرُها. وجاء هنا على الكثير: وهو مراعاةُ لفظِها دونَ معناها.وقرأ عبد الله- وكذلك هي في مصحفِه- {كلا الجَنَّتين} بالتذكير لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ثم قرأ: {آتَتْ} بالتأنيث اعتبارًا بلفظ {الجنتين} فهو نظيرُ طَلَعَ الشمسُ وأشرقَتْ وروى الفراء عنه قراءةً أخرى: {كلُّ الجنتين آتى أُكُلَه} أعادَ الضميرَ على لفظِه.
|